القدس: التاريخ الحقيقيّ من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسيّ | فصل

«القدس: التاريخ الحقيقيّ – من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسيّ» (2020)

 

صدر عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» كتاب «القدس: التاريخ الحقيقيّ – من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسيّ» (2020)، للدكتور أحمد الدبش.

يعمل الكتاب على كشف زيف الرواية ’الإسرائيليّة‘ حول تاريخ القدس، وفلسطين عمومًا، من خلال تقديم رواية مغايرة لهذا التاريخ، متحرّرة من الخلفيّة الأسطوريّة المستمدّة من التوراة من جهة، ومن الفرضيّات المسبقة الّتي حكمت الدراسات الآثاريّة الّتي جعلت من الرواية التوراتيّة مرجعيّة تاريخيّة وجغرافيّة لها، وسعت لتغييب الهويّة الفلسطينيّة العربيّة عن المكتشفات الآثاريّة في فلسطين. يساهم الكتاب في صوغ تاريخ حقيقيّ لمدينة القدس، يمتدّ إلى آلاف السنين، ويعمل على تفكيك الرواية التوراتيّة بوصفها تاريخًا حقيقيًّا، معتمدًا عىل نتائج الحفريّات الآثاريّة والمعلومات الأركيولوجيّة الحديثة الّتي أثبتت أنّ كلّ الادّعاءات الصهيونيّة الّتي تربط مدينة القدس بالرواية التوراتيّة هي ادّعاءات وهميّة لا أساس لها في التاريخ.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بالتعاون مع «مركز دراسات الوحدة العربيّة».

 


 

مملكة توراتيّة من ورق

لمّا كان داود وسليمان التوراة يشكّلان مرتكزًا وأساسًا للمزاعم الصهيونيّة، ولما كان يُنظر إليهما، كما هو الحال، كجدّ للصهيونيّة المعاصرة، فيجب أن نوضّح أنّ جهود الباحثين التوراتيّين في البحث عن المملكة الداوديّة - السليمانيّة ليست ذات أهمّية تاريخيّة وأثريّة فقط، إذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ دولة إسرائيل الحديثة ترجع مطالبتها التاريخيّة والطبيعيّة إلى دولة العصر الحديديّ تلك. فقد أشار إعلان الاستقلال لدولة إسرائيل الحديثة الّذي أصدره مجلس الأمّة المؤقّت في تل أبيب في 14/5/1948؛ أشار إلى "إعادة بناء الدولة اليهوديّة" (Re-establishment of the Jewish State)، وما هذا التعبير إلّا صياغة لوعد بلفور الّذي أُعْلِنَ قبل واحد وثلاثين عامًا من إنشاء الدولة، ذلك الوعد الّذي تحدّث عن "إنشاء وطن قوميّ لليهود في فلسطين".

إنّ الباحثين التوراتيّين، وكذلك علماء الآثار، قد بحثوا عن دولة كبرى في العصر الحديديّ، قويّة وذات سيادة مستقلّة ومؤسّسها داود وابنه سليمان وتصوّروا أنّ هذه المملكة قد وُجِدَتْ بالفعل...

إنّ الباحثين التوراتيّين، وكذلك علماء الآثار، قد بحثوا عن دولة كبرى في العصر الحديديّ، قويّة وذات سيادة مستقلّة ومؤسّسها داود وابنه سليمان وتصوّروا أنّ هذه المملكة قد وُجِدَتْ بالفعل. وقد هيمنت تلك ’الحقيقة‘ المزعومة على خطاب الدراسات التوراتيّة خلال معظم القرن الحاليّ، وأتاحت مجالًا لتطوير كثير من فرضيّات التراث التوراتيّ، وهذه ’الحقيقة‘ المزعومة أسهمت أكثر من أيّ شيء آخر في إهمال وتحقير الشعب الفلسطينيّ وثقافته، مع إغفال التاريخ الّذي بقي آلافًا من السنين لفلسطين، ذلك التاريخ الّذي تعامى عنه علماء الآثار بالمعنى الحرفيّ لكلمة التعامي.

في ذلك يقول لورنس دفدسن، في دراسته القيّمة «الأثريّات الكتابيّة والصحافة: صياغة التصوّرات الأمريكيّة لفلسطين في العقد الأوّل من الانتداب»: "إنّ علم الآثار في فلسطين، شدّد على مواقع العهد القديم. إنّ العهد القديم، وبالتالي التاريخ اليهوديّ القديم في فلسطين - كما هو مصوّر في التوراة - هو الّذي سعى اللاهوتيّون إلى إثبات صحّته. وحتّى أولئك المسيحيّون، الّذين اعتبروا فلسطين وطنًا ليسوع، كانوا سيجدون أنفسهم، جرّاء اتّباعهم تغطية علم الآثار في فلسطين، أنّه قد تمّت إعادة توجيههم نحو فلسطين الملكين داود وسليمان، وخلفائهم ما قبل المسيحية، رغم بقائها ذات أهمّيّة دينيّة. ففي ما سعى الصهاينة مادّيًّا إلى تحويل فلسطين إلى وطن قوميّ يهوديّ، ساهم عمل علماء الآثار في تحويل فلسطين، على الصعيد النفسيّ، إلى أرض يهوديّة"[1].

 

نقطة زيت في كلّ مكان

من القضايا المهمّة الّتي تشير إلى مغالطات المؤرّخين وتبنّيهم وجهة نظر التوراة، وأحيانًا كثيرة المغالاة في موضوع «المملكة الداوديّة - السليمانيّة»، فمعظم الّذين كتبوا في هذا الموضوع من الباحثين التوراتيّين والغربيّين وساندهم في ذلك أصحاب وحرّاس الفكر الآسن من الأكاديميّين العرب، أشاروا إلى أنّ هذه المملكة، الّتي عادة ما تُرْبَطُ بالفترة (960 - 930 ق.م)، كانت أعظم إمبراطوريّات المشرق العربيّ، وأنّ حدودها امتدّت لتغطّي كلّ بلاد الشام، ولم تقتصر على فلسطين فحسب. على الرغم من أنّ التوراة لا تكلّ عن مديح عصر داود وسليمان واعتباره العصر الذهبيّ الإسرائيليّ، والإشادة بما يقال عن إنجازات عصرهما الثقافيّة والعمرانيّة والإداريّة، فمن الطبيعيّ أن نتوقّع العثور على أثر واحد على الأقلّ يعود إلى تلك المرحلة، عمرانيًّا كان أم توثيقيًّا أو نقشًا، أو ما إلى ذلك. لكن في الحقيقة، حتّى هذه اللحظة، لم يتمكّن الآثاريّون من العثور على أيّ دليل يشير، صراحة أو كناية، على المملكة الداوديّة - السليمانيّة في فلسطين.

إنّ مصدرنا الوحيد عن أعمال داود وسليمان وعن دورهما السياسيّ والعمرانيّ هو التوراة، والتوراة وحدها، إذ لم يعثر المنقّبون على أيّ أثر من هذا الدور. فلا وجود لمصادر تاريخيّة تدعم السجلّ التوراتيّ، كما لا تسهم المخلّفات الأثريّة في إيضاح ذلك. لا شكّ في أنّ للباحث أن يطرح تساؤلات في حالة انعدام الوثائق والبيانات، فالمملكة الدواديّة - السليمانيّة المزعومة الّتي تأسّست مع نهاية الألف الثاني قبل الميلاد في فلسطين، كما يزعم بعض الباحثين الغربييّن ومن يواليهم من أصحاب الفكر الآسن في جامعاتنا ومراكز أبحاثنا، لا بدّ أن تكون قد سبقتها مدّة طويلة وأن يكون تأسيسها قد تمخّض عن صراع محتدم بين دويلات المدن آنذاك، فأين هي مقدّمات تأسيس المملكة الدواديّة - السليمانيّة؟!

إذا كان علماء الآثار يبحثون عن أرشيف تاريخيّ للمرحلة السابقة لممالك داود وسليمان، فإنّهم لم يعثروا على ذلك في فلسطين، علمًا بأنّ الدول المجاورة قد قدّمت أرشيفًا تاريخيًّا للمرحلة نفسها.

حتّى هذه اللحظة، لم يتمكّن الآثاريّون من العثور على أيّ دليل يشير، صراحة أو كناية، على المملكة الداوديّة - السليمانيّة في فلسطين...

يعلن أمنون بن ثور، عالم الآثار في «الجامعة العبريّة»، "أنّ المسألة تشبه نقطة زيت تسقط فجأة قد تجدها في كلّ مكان إلّا هنا"[2].

ففي السنوات الأخيرة، بدأ الإجماع على فكرة وجود المملكة الدواديّة - السليمانيّة يتداعى تدريجيًّا، "فقد أصدر ليتش نقدًا معتدلًا في حدّته للاستخدام التاريخيّ للقصص التوراتيّة من منظور ’أنثروبولوجيّ‘ بنيويّ. والموضوع السائد في كتابه هو أنّ الكتاب العبريّ بوصفه نصًّا مقدّسًا لا يوفّر مصدرًا تاريخيًّا ولا يعكس بالضرورة حقيقة عن الماضي. إنّه يمثّل عند ليتش تبريرًا للماضي يكشف عن عالم القصّاصين أكثر ممّا يكشف عن أيّة حقيقة تاريخيّة؛ ويطرح أسئلة مهمّة جدًّا تثير شكوكًا حول التقديمات السائدة لحكميّ داود وسليمان، وتسائل تاريخيّة هذه المرحلة الهامّة كما قُدّمت في الموروثات الكتابيّة: "أنا شخصيًّا أرى ذلك غير قابل للتصديق. ليس هناك أيّ دليل أثريّ على وجود هذين البطلين أو على وقوع أيّ من الأحداث الّتي ارتبطت بهما. ولولا قداسة هذه القصص لكان وجودهما التاريخيّ مرفوضًا بالتأكيد"[3].

ممّا قاله العالم روني ريك في هذا الصدد: "آسف أنّ السيّد داود والسيّد سليمان لم يظهرا في هذه القصّة"[4].

"إنّ السمة الأكثر إدهاشًا في الخطاب - الكتابيّ - هي الصمت المطبق للسجلّ الآثاريّ حول ما يتعلّق باللحظة التعريفيّة - فترة سليمان وداود - في تاريخ المنطقة. إنّه الصمت الّذي ساهم بشكل أساسيّ قويّ ضمن المشروع، وتحديدًا بسبب أنّه أكّد تحامل المؤرّخين الكتابيّين الّذين قرّروا أنّ كتابة التاريخ تعتمد على المصادر المكتوبة، كما صرّح غاريبيي وليتش وفلاناغان، أنّ صمت السجلّ الآثاريّ هو الّذي يطرح أكثر الأسئلة جدّيّة حول تقديم إمبراطوريّة إسرائيليّة بوصفها تعبيرًا عن ثقافة حضارة نهضويّة ويوحي بأنّنا نتعامل مع ماضٍ مخترع"[5].

 

أورشليم... المدينة الصغيرة

يشير مِلَّر، إلى أنّه "ليس هناك دليل على المملكة الداوديّة - السليمانيّة خارج التقاليد والموروثات الكتابيّة، المؤرّخون الّذين يتحدّثون عن هذا الكيان إنّما يفترضون مسبقًا صحّة المعلومات الّتي يأخذونها من الكتاب العبريّ"[6].

يقول زئيف هيرزوغ، عالم الآثار ’الإسرائيليّ‘، "لقد جرت أعمال تنقيب في مناطق واسعة من المدينة – القدس - على امتداد المائة والخمسين سنة الماضية، وقد أظهرت هذه التنقيبات بقايا مهمّة من المدن الّتي تعود إلى عصر البرونز الوسيط وعصر الحديد الثاني، إلّا أنّه لم تكتشف أيّ آثار لبناء يعود إلى فترة المملكة المتّحدة باستثناء شظايا فخاريّة قليلة... ومن الواضح أنّ أورشليم في زمن داود وسليمان لم تكن إلّا مدينة صغيرة، وربّما قلعة صغيرة لملك، وفي كلّ الأحوال لم تكن قطّ عاصمة لإمبراطوريّة كما يصفها «الكتاب»... وهكذا فإنّ المملكة المتّحدة العظيمة ليست إلّا اختلاق حذلقة تاريخيّة"[7].

أورشليم في زمن داود وسليمان لم تكن إلّا مدينة صغيرة، وربّما قلعة صغيرة لملك... لم تكن قطّ عاصمة لإمبراطوريّة كما يصفها «الكتاب»... المملكة المتّحدة العظيمة ليست إلّا اختلاق حذلقة تاريخيّة...

شكّك عالم الآثار ’الإسرائيليّ‘ يسرائيل فنكلشتاين، من «جامعة تل أبيب» بوجود أيّ صلة لليهود بالقدس، جاء ذلك خلال تقرير نشرته مجلّة «جيروساليم ريبورت» ’الإسرائيليّة‘ توضّح فيه وجهة نظر فنكلشتاين، الّذي أكّد أنّه "لا يوجد أساس أو شاهد إثبات تاريخيّ على وجود داود، هذا الملك المحارب الّذي اتّخذ القدس عاصمة له والّذي سيأتي (المسايا) من صلبه للإشراف على بناء الهيكل الثالث، مؤكّدًا أنّ شخصيّة داود كزعيم يحظى بتكريم كبير لأنّه وحّد مملكتيّ يهودا وإسرائيل هو مجرّد وهْم وخيال لم يكن لها وجود حقيقيّ. كما يؤكّد فنكلشتاين أنّ وجود باني الهيكل وهو سليمان بن داود مشكوك فيه أيضًا"[8].

يقول العلّامة طومسون في كتابه «الماضي الخرافيّ (التوراة والتاريخ)» (2018): "جرى تقديم - القرن العاشر ق.م - بوصفه العصر الذهبيّ لإسرائيل وعاصمتها في أورشليم. كانت تلك الحقبة مرتبطة بالمملكة المتّحدة الّتي تضمّ السلطة السياسيّة لشاول وداود وسليمان، وتسيطر على الجسر البرّيّ الضخم من النيل إلى الفرات. إضافة إلى مفهومها عن الهيكل الّذي بناه سليمان بوصفه مركزًا لعبادة يهوه. تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخيّ الحقيقيّ. إنّنا نعرفها فقط كقصّة، وما نعرفه حول هذه القصص لا يشجّعنا على معاملتها كما لو أنّها تاريخيّة، أو أنّه كان يقصد منها أن تكون كذلك. ولا يتوافر دليل على وجود مملكة متّحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم، أو وجود أيّ قوّة سياسيّة موحّدة متماسكة، هيمنت على فلسطين الغربيّة، ناهيك عن إمبراطوريّة بالحجم الّذي تصفه الحكايات الأسطوريّة. ولا يتوافر أيّ دليل على وجود ملوك يدعون شاول أو داود أو سليمان؛ ولا نملك دليـلًا على وجود هيكل في أورشليم في هذه الفترة المبكّرة. ما نعرفه عن إسرائيل ويهوذا القرن العاشر لا يسمح لنا بتفسير انعدام الدليل هذا بوصفه فجوة في معرفتنا ومعلوماتنا حول الماضي، أو مجرّد نتيجة للطبيعة العرضيّة للآثاريّات. ما من متّسع ولا سياق، لا شيء مصطنع أو أرشيف يشير إلى مثل هذه الحقائق التاريخيّة في القرن العاشر في فلسطين. لا يمكن للمرء أن يتكلّم على دولة بلا سكان. ولا يمكنه أن يتكلّم عن عاصمة من دون بلدة. والقصص ليست كافية"[9].

 


إحالات

[1] لورنس دفدسن، الآثاريّات الكتابيّة والصحافة: صياغة التصوّرات الأمريكيّة لفلسطين في العقد الأوّل من الانتداب، ترجمة فاضل جتكر، دراسات قدمس؛ 4 (دمشق: قدمس للنشر والتوزيع، 2001)، ص 125.

[2] فرج الله صالح ديب، كذبة الساميّة وحقيقة الفينيقيّة (بيروت: دار نوفل، 1998)، ص 32.

[3] كيث وايتلام، تلفيق إسرائيل التوراتيّة طمس التاريخ الفلسطينيّ، ترجمة: ممدوح عدوان، ط 2 (دمشق: قدمس للنشر والتوزيع، 2002)، ص 223.

[4] أحمد الدبش، «إسرائيل أمّة مفتعلة،» العصور الجديدة (القاهرة)، السنة 2، العدد 15 (تشرين الثاني (نوفمبر) 2000).

[5] وايتلام، المصدر نفسه، ص 224.

[6] المصدر نفسه، ص 356.

[7] عصام سخنيني، تهافت التأريخ التوراتيّ (عمّان: الأهليّة للنشر والتوزيع، 2018)، ص 155 - 156.

[8] القدس العربيّ (لندن)، 15/4/1998. لمزيد من التفاصيل حول «المملكة الداوديّة السليمانيّة» انظر: إسرائيل فنكلشتاين ونيل أشر سيلبرمان، التوراة مكشوفة على حقيقتها، ترجمة سعد رستم (دمشق: الأوائل للنشر والتوزيع، 2005)، ص 167 - 192.

[9] توماس طومسون، الماضي الخرافيّ (التوراة والتاريخ)، ترجمة عدنان حسن ووزياد منى، ط 2 (دمشق: قدمس للنشر والتوزيع، 2003)، ص 268 - 269.

 


 

أحمد الدبش

 

 

 

كاتب وباحث في التاريخ القديم. له مجموعة مؤلّفات حول التاريخ التوراتيّ، منها «بحثّا عن النبي إبراهيم»، و«كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب»، و«يهوديّة الدولة: الحنين إلى الأساطير».